روائع مختارة | قطوف إيمانية | في رحاب القرآن الكريم | قبس من نور آية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > في رحاب القرآن الكريم > قبس من نور آية


  قبس من نور آية
     عدد مرات المشاهدة: 3178        عدد مرات الإرسال: 0

تفسير قوله تبارك وتعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّة َ هِى َ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41].

تعددت أقوال المفسرين في سبب نزول هذه الآية وسابقتها فروى الضحاك عن ابن عباس قال: {فَأَمَّا مَن طَغَى} [النازعات:37] فهو أخ لمصعب بن عمير أسر يوم بدر، فأخذته الأنصار فقالوا: من أنت؟ قال: أنا أخو مصعب بن عمير، فلم يشدوه في الوثاق، وأكرموه وبيتوه عندهم، فلما أصبحوا حدثوا مصعب بن عمير حديثه، فقال: ما هو لي بأخ، شدوا أسيركم، فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا، فأوثقوه حتى بعثت أمه في فدائه.

{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} فمصعب ابن عمير، وقى رسول الله صلي الله عليه وسام بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه، حتى نفذت المشاقص في جوفه -وهي السهام-، فلما رآه رسول الله صلي الله عليه وسام متشحطا في دمه قال: «عند الله أحتسبك» وقال لأصحابه: «لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعليه من ذهب»، وقيل: إن مصعب بن عمير قتل أخاه عامرا يوم بدر، وعن ابن عباس أيضا قال: نزلت هذه الآية في رجلين: أبي جهل بن هشام المخزومي ومصعب بن عمير العبدري. وقال السدي: نزلت هذه الآية {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك أن أبا بكر كان له غلام يأتيه بطعام، وكان يسأله من أين أتيت بهذا، فأتاه يوما بطعام فلم يسأله وأكله، فقال له غلامه: لِمَ لم تسألني اليوم؟ فقال: نسيت، فمن أين لك هذا الطعام، فقال: تكهنت لقوم في الجاهلية فأعطونيه، فتقيأه من ساعته وقال: يا رب ما بقي في العروق فأنت حبسته فنزلت: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ}، وقال الكلبي: هما عامّتان -انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 19/ 208، واللباب في علوم الكتاب لعمر بن علي الدمشقي 16/ 218.

ويقول فخر الدين الرازي في تفسيره لهذه الآية: ثم ذكر تعالى حال السعداء فقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّة َ هِى َ الْمَأْوَى} واعلم أن هذين الوصفين مضادان للوصفين اللذين وصف الله أهل النار بهما، فقوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ} ضد قوله: {فَأَمَّا مَن طَغَى} وقوله: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} ضد قوله: {وَءاثَرَ الْحَيَاة َ الدُّنْيَا} [النازعات:38] واعلم أن الخوف من الله لابد وأن يكون مسبوقاً بالعلم بالله على ما قال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر:28] ولما كان الخوف من الله هو السبب المعين لدفع الهوى لا جرم قدم العلة على المعلول وكما دخل في ذينك الصفتين جميع القبائح دخل في هذين الوصفين جميع الطاعات والحسنات -مفاتيح الغيب لفخر الدين محمد بن عمر الرازي 31/ 47.

وفي سياق حديثه عن الخوف من الله في موضع آخر من تفسيره يقول: فالله تعالى مخوف ومخشي والعبد من الله خائف وخاش، لأنه إذا نظر إلى نفسه رآها في غاية الضعف فهو خائف وإذا نظر إلى حضرة الله رآها في غاية العظمة فهو خاش لكن درجة الخاشي فوق درجة الخائف فلهذا قال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} جعله منحصراً فيهم لأنهم وإن فرضوا أنفسهم على غير ما هم عليه وقدروا أن الله رفع عنهم جميع ما هم فيه من الحوائج لا يتركون خشيته بل تزداد خشيتهم، وأما الذي يخافه من حيث إنه يفقره أو يسلب جاهه فربما يقل خوفه إذا أمن ذلك، فلذلك قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} وإذا كان هذا للخائف فما ظنك بالخاشي -مفاتيح الغيب 29/ 108.

ولتوضيح المراد بمقام الربّ جل وعلا يقول الشيخ الشنقيطي في تفسيره: هذه الآية الكريمة فيها وجهان معروفان عند العلماء، كلاهما يشهد له قرآن: أحدهما: أن المراد بقوله: {مَقَامَ رَبِّهِ}، أي قيامه بين يدي ربه، فالمقام اسم مصدر بمعنى القيام، وفاعله على هذا الوجه هو العبد الخائف، وإنما أضيف إلى الرب لوقوعه بين يديه، وهذا الوجه يشهد له قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ، وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}، فإن قوله: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}، قرينة دالة على أنه خاف عاقبة الذنب حين يقوم بين يدي ربه، فنهى نفسه عن هواها.

والوجه الثاني: أن فاعل المصدر الميمي الذي هو المَقام، هو الله تعالى: أي خاف هذا العبد قيام الله عليه ومراقبته لأعماله وإحصائها عليه، ويدل لهذا الوجه الآيات الدالة على قيام الله على جميع خلقه وإحصائه عليهم أعمالهم كقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255]، وقوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد:33]، وقوله تعالى: {وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس:61]، إلى غير ذلك من الآيات -أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن لمحمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي 7/ 506.

ويزيد الرازي وجها ثالثًا في تفسيره فيقول: وقيل: مقام مقحم يقال فلان يخاف جانب فلان أي يخاف فلاناً، وعلى هذا الوجه يظهر الفرق غاية الظهور بين الخائف والخاشي لأن الخائف خاف مقام ربه بين يدي الله، فالخاشي لو قيل له إفعل ما تريد فإنك لا تحاسب ولا تسأل عما تفعل لما كان يمكنه أن يأتي بغير التعظيم، والخائف ربما كان يقدم على ملاذِّ نفسه لو رفع عنه القلم -مفاتيح الغيب 29/ 108.

وفي ذات السياق يقول الأستاذ سيد قطب في تفسيره: والذي يخاف مقام ربه لا يقدم على معصية، فإذا أقدم عليها بحكم ضعفه البشري قاده خوف هذا المقام الجليل إلى الندم والإستغفار والتوبة فظل في دائرة الطاعة، ونهي النفس عن الهوى هو نقطة الإرتكاز في دائرة الطاعة. فالهوى هو الدافع القوي لكل طغيان، وكل تجاوز، وكل معصية، وهو أساس البلوى، وينبوع الشر، وقل أن يؤتى الإنسان إلا من قبل الهوى، فالجهل سهل علاجه، ولكن الهوى بعد العلم هو آفة النفس التي تحتاج إلى جهاد شاق طويل الأمد لعلاجها.

والخوف من الله هو الحاجز الصلب أمام دفعات الهوى العنيفة، وقل أن يثبت غير هذا الحاجز أمام دفعات الهوى، ومن ثم يجمع بينهما السياق القرآني في آية واحدة، فالذي يتحدث هنا هو خالق هذه النفس العليم بدائها، الخبير بدوائها وهو وحده الذي يعلم دروبها ومنحنياتها، ويعلم أين تكمن أهواؤها وأدواؤها، وكيف تطارد في مكامنها ومخابئها.

ولم يكلف الله الإنسان ألا يشتجر في نفسه الهوى، فهو سبحانه يعلم أن هذا خارج عن طاقته، ولكنه كلفه أن ينهاها ويكبحها ويمسك بزمامها وأن يستعين في هذا بالخوف، الخوف من مقام ربه الجليل العظيم المهيب، وكتب له بهذا الجهاد الشاق، الجنة مثابة ومأوى: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى} ذلك أن الله يعلم ضخامة هذا الجهاد، وقيمته كذلك في تهذيب النفس البشرية وتقويمها ورفعها إلى المقام الأسنى، إن الإنسان إنسان بهذا النهي وبهذا الجهاد وبهذا الإرتفاع، وليس إنساناً بترك نفسه لهواها، وإطاعة جواذبه إلى دركها، بحجة أن هذا مركب في طبيعته، فالذي أودع نفسه الإستعداد لجيشان الهوى، هو الذي أودعها الإستعداد للإمساك بزمامه ونهي النفس عنه ورفعها عن جاذبيته، وجعل له الجنة جزاء ومأوى حين ينتصر ويرتفع ويرقى.

وهنالك حرية إنسانية تليق بتكريم الله للإنسان، تلك هي حرية الإنتصار على هوى النفس والانطلاق من أسر الشهوة، والتصرف بها في توازن تثبت معه حرية الإختيار والتقدير الإنساني، وهنالك حرية حيوانية، هي هزيمة الإنسان أمام هواه، وعبوديته لشهوته، وإنفلات الزمام من إرادته، وهي حرية لا يهتف بها إلا مخلوق مهزوم الإنسانية مستعبد يلبس عبوديته رداء زائفاً من الحرية.

إن الأول هو الذي إرتفع وإرتقى وتهيأ للحياة الرفيعة الطليقة في جنة المأوى، أما الآخر فهو الذي إرتكس وإنتكس وتهيأ للحياة في درك الجحيم حيث تهدر إنسانيته، ويرتد شيئاً توقد به النار التي وقودها الناس من هذا الصنف والحجارة، وهذه وتلك هي المصير الطبيعي للإرتكاس والإرتقاء في ميزان هذا الدين الذي يزن حقيقة الأشياء -في ظلال القرآن لسيد قطب إبراهيم الشاربي 7/ 448.

ويقول الإمام ابن القيم تأكيدا لهذا المعنى في ذم الهوى والتحذير منه: فأما مخالفة الهوى فلم يجعل الله للجنة طريقا غير مخالفته ولم يجعل للنار طريقا غير متابعته قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى*وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا*فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى*وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37-41] وقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] قيل: هو العبد يهوى المعصية فيذكر مقام ربه عليه في الدنيا ومقامه بين يديه في الآخرة فيتركها لله -روضة المحبين ونزهة المشتاقين لأبي عبدالله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية ص 401.

ويقول أيضا: الناس على قسمين: قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته وصار طوعا لها تحت أوامرها، وقسم ظفروا بنفوسهم فقهروها فصارت طوعا لهم منقادة لأوامرهم، قال بعض العارفين: إنتهى سفر الطالبين إلى الظفر بأنفسهم فمن ظفر بنفسه أفلح وأنجح ومن ظفرت به نفسه خسر وهلك قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى*وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا*فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى*وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى*فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} فالنفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، والربُّ يدعو عبده إلى خوفه ونَهْي النفس عن الهوى، والقلب بين الداعيين يميل إلى هذا الداعي مرة وإلى هذا مرة وهذا موضع المحنة والابتلاء -إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن القيم 1/75.

حقّا إنها المحنة والإبتلاء، فهنيئًا لمن دان نفسه وخاف مقام ربه في أقواله وأفعاله، هنيئًا لمن خشي ربه بالغيب فإستجمع كل صفات الخير، لأن صفة الخوف من الله تعالى هي أجمع صفات الخير في الإنسان، لأنها صفة وسجية الملائكة المقربين، كما أخبر سبحانه وتعالى عنهم: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50].

اللهم اجعلنا ممن آثر حبك ورضاك على هواه، اللهم إنا نسألك الخوف منك في السر والعلن وخشيتك في الغيب والشهادة، اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ به بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ برحمتك يا أرحم الراحمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

المصدر: موقع البوابة الدينية.